في مجاليّ الفلسفة والفن، غالباً ما استخدم في الغرب مصطلح ما بعد الحداثة للدلالة على طريقة في التفكير تتعاطى مع العالم كحصيلة عدد من الأبعاد، ينم كل واحد منها على حدة عن حقيقة جزئية، مما أدى إلى كسر الحدود بين الثقافة النخبوية والشعبية. ويراد الإشارة بما بعد الحداثة إلى أسلوب يطرح التساؤلات حول الادعاءات المسبقة المتعلقة بالحداثة وهيكليتها الاجتماعية وموضوعيتها، وتتضمن لائحة التساؤلات: الإيمان بالتقدم وبوجود الحقيقة المطلقة فعليا، والتشديد على أهمية الشكل والمذهب الفني وبالمقابل التخلي عن الوظيفة الاجتماعية النقدية للفن. ويستخدم الكثيرون المصطلح نفسه لتوكيد التفكك كبديل عن الترابط والاستمرارية، واعتماد التصورات غير النهائية أو الجازمة في مشاكسة للتحليل العقلاني ومخالفته. تجد ما بعد الحداثة اسقاطاتها في كم من الاتجاهات الموسيقية التي أعلنت عن حضور حركة جديدة معاكسة لحداثة ما بعد الحرب العالمية الثانية. ففي الربع الأخير من القرن العشرين تمحور اهتمام الحركة السياسية الثقافية والنظرية النقدية حول الدور الذي تخلفه الاختلافات في المجتمع والثقافة، الاختلافات الطبقية والعرقية والجندر بشكل خاص. وذلك نتيجة ارتفاع حدة التعقيدات الناجمة عن تشابك ثقافات العالم وتزايد الوعي للحاجة الماسة إلى احترام الثقافات غير الغربية بدلاً من السيطرة عليها، والالتفات إلى الأفراد والمجموعات خاصة. كما أسهمت موسيقى ما بعد الاستعمار والنابعة من أصوات المغتربين الذين صارعوا السلطة والفقر والتمييز العنصري في أوروبا وأميركا الشمالية بالاعتراف بها كقالب ثقافي رئيسي وبديل، فجاءت موسيقى ما بعد الحداثة، متنوعة اللون تعالج المسائل الشخصية وذات صلة وثيقة بالأمور المحلية بدلا من التطرق إلى مسائل عالمية النفس.
نهاية الحركة الطليعية
منذ العام 1960، مع اقتراب نهاية الحركة الطليعية، قام بعض المؤلفين الموسيقيين الغربيين بإعادة تقييم إمكانيات الموسيقى التعبيرية. فضرب بعضهم الحاجة إلى الأصالة بعرض الحائط وتعمدوا نبذ الدافع خلف التغيير المتواصل بين عمل موسيقي وآخر، وإهمال المقاربة الفكرية المعقدة والصعبة التي شرعتها الحداثة لصالح العودة إلى مفاهيم تقليدية أكثر إلفة. وراح البعض الآخر إلى حد إعادة إحياء العلاقة مع الماضي وتبني الهارمونية والاستراتيجيات الزمنية الخاصة بالمؤلفات الموسيقية للقرن الثامن والتاسع عشر، كما يتجلى الأمر في أعمال جورج روتشبيرغ George Rochberg وقوالبه التقليدية وبنية جمله الموسيقية التي تتضح من بين طياتها أفكار مشبعة بالحداثة. أو كما نراها في مؤلفات دافيد ديل تريديتشي David Del Tredici وإلين زويليتش Ellen Zwilich اللذين اعتنقا بإخلاص شديد النغمية tonality والسرد الموسيقي التقليدي. وتخويل الاصطلاحات الشعبية بالاندماج في الموسيقى الكلاسيكية كما نجده في أعمال وليم بولكوم William Bolcom ونظرائه. مما أدى إلى مراجعة حسبة معظم مفاهيم التناغم وانبعاث مبادئ جديدة تعنى بالنغمية. أطلق على هذا الاتجاه <<ارتكاس ما بعد حداثي>>، وفي بريطانيا والولايات المتحدة ارتبط ب <<المحافظين الجدد>> eo-conservatism الذين برزوا بدءا من ثمانينات القرن المنصرم. أما النقاد الموسيقيون، في ألمانيا بشكل خاص، فقد أطلقوا على الاتجاه نفسه تسمية <<الرومانتيكيين الجدد>> لما فيه من قوة المشاعر. ونجد انعكاسه واضحاً في مؤلفات أرفو بارت Arvo Pٹrt التي ترتكس إلى الروحانية والتصوف ضمن قالب حديث.
أما الاتجاه الموسوم ب <<مقاومة ما بعد حداثية>> أو <<راديكالية ما بعد حداثية>>، فيطرح التساؤلات حول الشيفرة الثقافية، بدلاً من الغور فيها، ويحاول كشف أي أصول اجتماعية سياسية كامنة فيها. وينصب اهتمام المؤلفات الموسيقية، النابعة من هذا التيار، على معالجة النغمية وهيكلية السرد الموسيقي والسيطرة الغربية وسلطة الذكورة. في مؤلفاته، يقحم جون أدامز John Adams تلميحات ضمنية تسخر من السرد المألوف بينما يفكك آخرون المعاني المتأصلة في العمل الموسيقي. ويستخدم كل من فيليب غلاس Philip Glass وستيف رايخ Steve Reich ومايكل نيمن Micheal Nyman الإعادة المتواصلة للنغم والإيقاع لخلق أعمال تفتقر إلى السرد وتدمر الدور الذي تلعبه الذاكرة عادة في تلقي هيكلية العمل الفني.
تخطي الأسلاف
إزاء تجاور عدد من العناصر الانتقائية، من مصادر متعددة، أحياناً لعناصر غير موسيقية بتاتاً، وإقحامها في العمل الموسيقي يلد فرع اخر من المقاربة الموسيقية الما بعد حداثية. فغالباً ما انعكست في مفهوم الحداثة الرغبة في تخطي الأسلاف، من خلال التحريف تارة والتهكم بالعناصر المستعارة من الأسبقين تارة اخرى، تنشط المقاربة الما بعد حداثية من دون أيما اهتمام بتأكيد سيطرة عنصر على آخر. فالعنصر الأبرز في الاتجاه الما بعد حداثي ليس ما تم صيانته من الماضي، بل الطبيعة الراديكالية للعنصر المتضمن. وإن كان هناك تصادم بين الحديث والعتيق، الأصيل والمستعار، الجدي والشعبي، الجمالي وغير الجمالي، السياسي أو الهامشي. . . تنطوي الأخلاق الموسيقية الما بعد حداثية على تقبل المفارقة. وهذا التجاور أو الكولاج، كما يطلق عليه، يختلف بين عمل وآخر وبين موسيقي وآخر. يشكل جون زورن John Zorn مثالا نموذجيا عن المؤلف الموسيقي في عصر الإعلام، فهو ينكر تماماً الحدود الناتئة المستنبطة بين نوع موسيقي وآخر، ويستوحي مؤلفاته من مطلق أية مادة موسيقية موجودة. ونجد في بعض تسجيلاته الجاز والسوينغ والبوب والريغي والموسيقى التصويرية المستخدمة في السينما والتلفزيون وصوت يتكلم اليابانية في تحاذ مع صوت فوضوي الوجود. كذلك جون كايج John Cage، فإلى جانب إضافة الآلات الموسيقية غير الغربية، كالهندية واليابانية وغيرها من الآلات غير المألوفة، استخدم علب الصفيح وآلة إيقاعية مصنوعة من مكابح السيارة. ويسعى هذا الضجيج الموسيقي إلى تغيير طبيعة عملية الاستماع وتحدي التوقعات التقليدية المنتظرة من الموسيقى. وكان كريستيان وولف Christian Wolff من أكثر المؤلفين الذين عملوا على إشراك العازف في العمل والسماح له بصياغة الموسيقى من خلال التفاعل مع الأصوات بشكل حر وبالتالي التقليل من دور قائد الأوركسترا وإلغاء سلطته. باعتماد تقنية <<التلقين>> <>، وفيها تستند قرارات عازف ما على الأصوات الآتية من عازف آخر مما يولد سلسلة تتألف حلقاتها من الفعل والتفاعل، تتطلب من العازفين النباهة والليونة لخلق عرض موسيقي أقرب إلى الارتجال. مثلاً المقطوعة <> (1985)، كما يشير العنوان هي مقطوعة موسيقية لعزف ثنائي على البيانو، يأخذ كل عازف على حدة عدة وحدات موسيقية ذات تنوين غير دقيق، فيعود خيار العازف في اعتماد وحدة على أخرى بحسب آخر ما سمعه من العازف الثاني، وهكذا يستمر الموسيقيان بالعزف من دون معرفة مدة المقطوعة إلى أن يتفق كلاهما ضمنا على الاكتفاء من العزف. ويختصر وولف المبادئ المتحكمة بالعرض الموسيقي بالتالي: على القطعة الموسيقية أن تتيح الحرية للعازف والمحافظة على كرامته، على المقطوعة أن تتطلب تركيز العازف والتنفيس على السواء، ما من صوت أو ضجيج له الأفضلية على آخر، وعلى المستمع ان يكون حرا بقدر العازف. ما معنى الجملة الأخيرة، لا نجد لها تفسيرا في مقولة وولف.
موسيقى مفهومية